في عالم الاستثمار، لا تكفي معرفة العائد المحتمل لاتخاذ قرارات ذكية. فالمخاطر تسير جنبًا إلى جنب مع الأرباح، وهنا يأتي دور الانحراف المعياري في الاستثمار.
هذا المصطلح الإحصائي قد يبدو معقدًا للوهلة الأولى، لكنه في الحقيقة أداة قوية يستخدمها المستثمرون المحترفون لقياس درجة التقلب في أداء الأصول المالية.
كلما كان الانحراف المعياري أكبر، زادت التقلبات، وبالتالي زادت احتمالية الربح أو الخسارة بشكل مفاجئ. فكيف يُحسب؟ ولماذا يُعد مهمًا؟ وكيف يمكن استخدامه بشكل عملي لاتخاذ قرارات استثمارية أكثر وعيًا؟
في هذا المقال، نأخذك في جولة مبسطة لفهم الانحراف المعياري بلغة واضحة، مع أمثلة واقعية من السوق.

الانحراف المعياري: من علم الإحصاء إلى عالم المال

تعريف مبسط للمصطلح

الانحراف المعياري هو مقياس إحصائي يُستخدم لقياس مدى تشتّت القيم حول المتوسط. بعبارة أبسط، هو طريقة لفهم مدى تقلب النتائج أو تغيرها عن القيمة المتوسطة.

في الاستثمار، تُستخدم هذه الأداة لقياس مدى تذبذب عوائد أصل مالي معين (مثل سهم أو صندوق استثماري) مقارنة بمتوسط أدائه خلال فترة زمنية محددة.

مثلًا: إذا كان متوسط عائد سهم ما هو 10%، لكن في بعض السنوات يحقق 5%، وفي سنوات أخرى 15%، فهذا يدل على وجود انحراف معياري، أي تذبذب في الأداء.

كلما كان الانحراف المعياري مرتفعًا، دلّ ذلك على تقلبات عالية في العوائد. أما إذا كان منخفضًا، فغالبًا ما يكون أداء الأصل أكثر استقرارًا وأقل مفاجأة.

الفرق بين التباين والانحراف المعياري

غالبًا ما يُذكر مصطلح “التباين” إلى جانب الانحراف المعياري، فما الفرق بينهما؟

• التباين (Variance): هو المتوسط الحسابي لمربعات الفروقات بين كل قيمة ومتوسط القيم.
• الانحراف المعياري (Standard Deviation): هو الجذر التربيعي للتباين.

الانحراف المعياري يُعبّر عنه بنفس وحدة القياس (مثل النسبة المئوية للعائد)، لذا فهو أكثر استخدامًا وأسهل فهمًا للمستثمرين مقارنة بالتباين.

مثال عملي: إذا كان التباين لعوائد سهم معين هو 25، فإن الانحراف المعياري سيكون √25 = 5%.

لماذا يهتم المستثمرون المحترفون بالانحراف المعياري؟

فهم التقلب لتقدير المخاطر

في عالم الاستثمار، العائد وحده لا يكفي. فالمستثمر الذكي لا يسأل فقط: “كم سأربح؟” بل أيضًا: “ما مدى احتمال أن أخسر؟”
وهنا يظهر دور الانحراف المعياري في الاستثمار كمؤشر على درجة المخاطرة.

عندما يكون الانحراف المعياري مرتفعًا، فهذا يعني أن العوائد كانت متذبذبة بشكل كبير في الماضي، وبالتالي يصعب التنبؤ بأداء الأصل في المستقبل. هذا لا يعني بالضرورة أن الأصل سيئ، لكنه يشير إلى مخاطرة أكبر يجب أخذها في الحسبان.

مثال: سهم بعائد 8% وانحراف معياري 2% يُعتبر أكثر استقرارًا من سهم بعائد 10% وانحراف معياري 6%.

دوره في تقييم المحافظ الاستثمارية

المستثمرون المحترفون لا ينظرون فقط إلى أداء الأصول الفردية، بل أيضًا إلى توازن المحفظة الاستثمارية ككل.
الانحراف المعياري يُستخدم لتحليل:

• مدى استقرار العائد الإجمالي للمحفظة.
• تأثير إضافة أصل جديد (ذو تقلبات عالية أو منخفضة) على المخاطر العامة.
• العلاقة بين الأصول (من خلال الانحراف المعياري المشترك).

باختصار، الانحراف المعياري يساعد في بناء محفظة متوازنة تحقق أهداف العائد مع تحمّل مستوى مخاطرة مناسب.

ولمعرفة الفرق بين أدوات التحليل المستخدمة في تقييم الأصول، يمكن الرجوع إلى هذا الدليل المقارن بين
التحليل الأساسي مقابل التحليل الفني: أيّهما أنسب لنوع استثمارك؟

أمثلة واقعية: كيف يستخدم المستثمرون الانحراف المعياري؟

مقارنة بين سهمين من حيث التقلب

لنفترض أن مستثمرًا يقارن بين سهمين:

• السهم (أ): يحقق متوسط عائد سنوي 10%، بانحراف معياري 2%.
• السهم (ب): يحقق نفس العائد 10%، لكن بانحراف معياري 7%.

من النظرة الأولى، العائد متساوٍ، لكن السهم (ب) أكثر تقلبًا، مما يعني أن نتائجه تتفاوت كثيرًا من سنة لأخرى. المستثمر المحافظ قد يفضل السهم (أ) رغم تشابه العائد، لأنه أكثر استقرارًا.

الخلاصة: الانحراف المعياري يساعد في التمييز بين “العائد الجيد المستقر” و”العائد الجيد الخطر”.

تطبيق في صناديق الاستثمار

مديرو الصناديق يستخدمون الانحراف المعياري لقياس أداء الصندوق مقارنة بالمخاطر التي يتحملها المستثمرون.
مثلاً، صندوقان يحققان عائدًا سنويًا 12%:

• الصندوق الأول بانحراف معياري 4%.
• الصندوق الثاني بانحراف معياري 9%.

الصندوق الأول يُعتبر أكثر كفاءة، لأنه يحقق نفس العائد مع مخاطر أقل.

وفي بعض التقييمات، يُستخدم الانحراف المعياري مع مؤشرات أخرى مثل نسبة شارب (Sharpe Ratio) لتحديد مدى جدوى المخاطرة مقابل العائد.

حدود الانحراف المعياري: هل هو كافٍ وحده؟

مخاطره في الأسواق المتقلبة

رغم أن الانحراف المعياري في الاستثمار أداة مهمة، إلا أنه لا يخلو من القيود.
أبرزها أنه يفترض أن التقلبات موزعة بشكل طبيعي (أي أن الصعود والهبوط متساويان من حيث التأثير). لكن الواقع يقول غير ذلك:

• في بعض الأحيان، الخسائر الكبيرة تكون أكثر احتمالًا من الأرباح الكبيرة، خاصة في الأزمات.
• الانحراف المعياري لا يفرّق بين تقلب إيجابي (عائد مرتفع) وتقلب سلبي (خسارة)، فهو يعامل كليهما على قدم المساواة.

لذا، الاعتماد عليه وحده قد يعطي صورة ناقصة عن المخاطر الحقيقية.

أدوات مكملة مثل بيتا وVAR

لتعزيز فهم المخاطر، يُفضّل استخدام الانحراف المعياري إلى جانب أدوات أخرى، مثل:

• معامل بيتا (Beta): يقيس حساسية السهم تجاه حركة السوق ككل. إذا كانت بيتا = 1.2، فإن السهم يتحرك بنسبة 20% أكثر من السوق صعودًا أو هبوطًا.
• قيمة المخاطرة (Value at Risk – VaR): تقدّر الحد الأقصى للخسارة المتوقعة خلال فترة معينة بنسبة ثقة محددة.

هذه الأدوات، إلى جانب الانحراف المعياري، تعطي المستثمر صورة أشمل عن نوعية المخاطر وليس فقط كميتها.

كما يُنصح بدمج الانحراف المعياري مع أدوات تحليل أخرى يمكن اكتشافها عبر مقال التحليل الفني للأسواق المالية، لفهم السلوك السعري للأصول بشكل أعمق.

كيف تحلل الانحراف المعياري كمستثمر فردي؟

خطوات مبسطة لحسابه

لحساب الانحراف المعياري في الاستثمار، لا تحتاج دائمًا إلى برامج متقدمة، بل يمكنك استخدام أدوات بسيطة مثل Excel أو Google Sheets.
إليك الخطوات الأساسية:

1. اجمع بيانات العائد لفترات متتالية (مثل العائد الشهري لسهم معين خلال آخر 12 شهرًا).
2. احسب المتوسط الحسابي لهذه العوائد.
3. احسب الفرق بين كل عائد والمتوسط، ثم قم بتربيع كل فرق.
4. احسب متوسط القيم المربعة (هذا هو التباين).
5. خذ الجذر التربيعي للتباين، لتحصل على الانحراف المعياري.

أو ببساطة: استخدم الدالة =STDEV.P() في Excel على مجموعة البيانات، وستحصل على النتيجة مباشرة.

متى يجب القلق من ارتفاعه؟

ليس كل ارتفاع في الانحراف المعياري أمرًا سيئًا. في بعض الحالات، قد يكون مبررًا:

• الأسهم التقنية مثل شركات النمو قد تكون أكثر تقلبًا بطبيعتها.
• السوق في حالة اضطراب عام بسبب أحداث اقتصادية أو سياسية.

لكن كقاعدة عامة:

• إذا كنت مستثمرًا طويل الأجل محافظًا، فارتفاع الانحراف المعياري قد يعني مخاطرة غير مرغوبة.
• أما إذا كنت مضاربًا أو مستثمرًا نشطًا، فقد ترى فيه فرصة لتحقيق أرباح من التقلب.

الأهم دائمًا: أن يكون مستوى التقلب متوافقًا مع استراتيجيتك وتحملك للمخاطر.

الأسئلة الشائعة حول الانحراف المعياري في الاستثمار (FAQ)

ما الفرق بين الانحراف المعياري والتقلب؟

في الواقع، الانحراف المعياري هو الطريقة الإحصائية لقياس التقلب. بينما “التقلب” مصطلح عام يُستخدم لوصف تغيرات الأسعار، فإن الانحراف المعياري يُعطي رقمًا محددًا لهذه التغيرات.

هل الانحراف المعياري مفيد للمبتدئين في الاستثمار؟

نعم، بشرط أن يتم فهمه وتفسيره بشكل صحيح. يساعد الانحراف المعياري المستثمر المبتدئ على إدراك أن العائد المرتفع قد يكون مصحوبًا بمخاطر عالية، مما يشجّع على اتخاذ قرارات أكثر توازنًا.

هل الانحراف المعياري أداة لتوقع المستقبل؟

ليس تمامًا. الانحراف المعياري يقيس تذبذب الأداء الماضي، ولا يضمن أن نفس التقلبات ستحدث مستقبلاً. لكنه يعكس نمطًا تاريخيًا قد يساعد في بناء تصور مبدئي عن سلوك الأصل المالي.

هل هناك أدوات جاهزة لقياس الانحراف المعياري؟

نعم. معظم المنصات المالية مثل Yahoo Finance وTradingView تعرض الانحراف المعياري ضمن البيانات الإحصائية للأصول. كما توفر برامج مثل Excel وGoogle Sheets دوال لحسابه بسهولة.

خلاصة: هل يجب أن تعتمد عليه وحده؟

يمثل الانحراف المعياري في الاستثمار أداة أساسية لفهم مدى تقلب الأصول المالية والمخاطر المحتملة. كلما زاد، زاد معه احتمال التغير الحاد في الأداء، سواء إيجابًا أو سلبًا.

لكن رغم أهميته، لا ينبغي الاعتماد عليه وحده. بل يجب أن يُستخدم ضمن منظومة أدوات تحليلية أوسع تشمل بيتا، ونسبة شارب، وتحليل نوعي للأصل.

بالنسبة للمستثمر الفردي، فإن فهم الانحراف المعياري ولو على مستوى بسيط يمكن أن يحدث فرقًا كبيرًا في تقييم المخاطر واتخاذ قرارات استثمارية واعية.